سيحل على المسلمون الأحد القادم 7 من يوليو لعام 2024 ميلادي الأول من محرم للعام الهجري الجديد 1446. وترجع تسمية السنة الهجرية في التقويم الإسلامي إلى الهجرة النبوية المباركة من مكة المكرمة إلى يثرب (المدينة المنورة)، حيث اعتمد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، في السنوات الأولى من خلافته وبعد استشارة الصحابة، الهجرة النبوية بداية للتقويم الهجري، وجعل رضي الله عنه الأول من محرم بداية للسنة الهجرية. ونستحضر في ذكرى هذا اليوم التضحية الكبيرة لرسولنا الكريم وصحابته الأبراء في سبيل إنشاء الدولة الإسلامية وتثبيت قواعدها لتكون منبرا لنشر الإسلام وهداية البشرية في شتى بقاع الأرض.
ابتدأ النبي عليه الصلاة والسلام دعوته للإسلام بقومه في مكة. وكان معروف عندهم قبل بعثته بدماثة الخلق فكان عليه الصلاة والسلام لا يكذب أبدا وكان أميناً مؤتمناً يحفظ العهود ويؤدي الأمانات إلى أهلها، حتى لقبوه بالصادق الأمين. ومع ذلك أعمى الشيطان بصيرتهم واتبعوا أهوائهم وكَذّبوا برسالة خير البشر، ولم يكتفوا بذلك، بل أخذوا يحاربونه ويحاربون الإسلام والمسلمين ويذيقون من آمن أشد العذاب، فدعا النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين الهجرة إلى الحبشة التي كان يحكمها أصحمة النجاشي الملك العادل الذي لا يُظلم عنده أحد، حتى يتمكن المسلمون من ممارسة دينهم بعيدا عن قريش وطغيانها. فخرج إلى الحبشة من المسلمين أحد عشر رجلا وأربعة نساء، ومكثوا في الحبشة بضعة أشهر حتى بلغهم خبر إسلام قريش، فقرروا العودة إلى مكة، لكن عندما دنوا من مكة بلغهم أن ما سمعوه من أخبار عن إسلام أهل مكة كان باطلاً. فمنهم من رجع إلى الحبشة ومنهم من دخل مكة. وكانت هذه الهجرة في السنة الخامسة من البعثة وتُعرف بالهجرة الأولى إلى الحبشة. ومع استمرار أذى قريش وتفاقمه، أَذِنَ النبي عليه الصلاة والسلام للمسلمين في الخروج مرة أخرى إلى الحبشة فيما يُعرف بالهجرة الثانية للحبشة. وكان عدد المهاجرين ثلاثة وثمانين رجلًا وتسع عشرة امرأة. لكن قريش أبت ان تترك المسلمين وشأنهم وجمعوا الأموال والهدايا للنجاشي وطلبوا منه ان يسلمهم المسلمين الذين هاجروا إلى أرضه، لكن النجاشي رفض طلبهم وأَمّن المسلمين في دياره، وردّ الله تعالى وفد قريش إلى ديارهم خائبين. فمكث المسلمون في الحبشة حتى وصلهم خبر هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى يثرب، حيث رجع معظمهم إلى المدينة المنورة، ورجع البقية بعد فتح مكة.
وتبدأ قصة الهجرة إلى يثرب عندما اشتد عداء قريش للمسلمين وللنبي عليه الصلاة والسلام بعد وفاة عمه أبو طالب الذي كان يناصره ويَذُب عنه من عاداه، فقرر عليه الصلاة والسلام الخروج إلى الطائف برفقة زيد بن حارثة ومكث فيها عشرة أيام يدعوا أهلها للإسلام، لكنهم لم يجيبوه، وردّوا عليه ردا شديدا قبيحا، وسلطوا عليه سفهائهم يرمونه بالحجارة حتى سال الدم من رجليه الطاهرة. فانصرف عليه الصلاة والسلام عنهم وعاد إلى مكة. وبعدها أخذ يتبع الحجاج في مِنى ويأتي القبائل في أسواق المواسم يعرض عليهم الإسلام، ولم يزل يفعل ذلك حتى لقي ستة أشخاص من الخزرج من يثرب، فدعاهم إلى الإسلام فقال بعضهم لبعض "يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به اليهود، فلا تسبقنّكم إليه". وقد كان اليهود في يثرب يتوعدون الخزرج بقتلهم بنبي آخر الزمان. فأسلم أولئك النفر ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم. فلما قدموا المدينة ذكروا لقومهم خبر النبي ودعوهم إلى الإسلام، حتى انتشر فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذِكرٌ من النبي عليه الصلاة والسلام. حتى إذا كان العام المقبل، وافى موسم الحج من الأنصار اثنا عشر رجلًا، فلقوا النبي عليه الصلاة والسلام بالعقبة في مِنى فبايعوه، فكانت بيعة العقبة الأولى. ونص البيعة كما رواه عبادة بن الصامت: "إنِّي مِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بَايَعْنَاهُ علَى أنْ لا نُشْرِكَ باللَّهِ شيئًا، ولَا نَسْرِقَ، ولَا نَزْنِيَ، ولَا نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ، ولَا نَنْتَهِبَ، ولَا نَعْصِيَ، بالجَنَّةِ إنْ فَعَلْنَا ذلكَ، فإنْ غَشِينَا مِن ذلكَ شيئًا، كانَ قَضَاءُ ذلكَ إلى اللَّهِ" (رواه البخاري). وبعث النبي عليه الصلاة والسلام مع من بايعوه من يثرب مصعب بن عمير أول سفير بالإسلام، يُقرئهم القرآن ويصلي بهم ويدعوهم للإسلام حتى أسلم على يديه أعيان ووجهاء الأوس والخزرج وتبعهم قومهم، فانتشر الإسلام في يثرب حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون.
رجع مصعب بن عمير إلى مكة، وخرج سبعون رجلًا من الأنصار وامرأتان في موسم الحج، والتقوا بالرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا له: "يا رسولَ اللهِ، عَلامَ نُبايِعُكَ؟ قال: تُبايِعوني على السَّمعِ والطاعةِ في النَّشاطِ والكَسَلِ، وعلى النَّفَقةِ في العُسْرِ واليُسْرِ، وعلى الأمْرِ بالمَعْروفِ، والنَّهْيِ عن المُنكَرِ، وعلى أنْ تَقولوا في اللهِ لا تَأخُذُكُم فيه لَومةُ لائِمٍ، وعلى أنْ تَنصُروني إذا قَدِمْتُ يَثرِبَ، فتَمْنَعوني ممَّا تَمنَعون منه أنفُسَكُم وأزْواجَكُم وأبْناءكُم ولكم الجَنَّةُ." (أخرجه أحمد). فبايع الأنصار النبي عليه الصلاة والسلام وسُميت هذه البيعة ببيعة العقبة الثانية.
ولما زاد طغيان قريش وظلمهم وتعذيبهم للمسلمين بعد بيعة العقبة الثانية، أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمون بالهجرة إلى يثرب التي كان قد آمن عددا كبيرا من أهلها وبايعوا النبي عليه الصلاة والسلام على نصرته ونصرة الإسلام. وأخذ المسلمون يهاجرون إلى يثرب أرسالا كما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام، هربا من اضطهاد المشركين وليتمكنوا من ممارسة تعاليم دينهم الحنيف ونشر رسالة الإسلام بعيدا عن قريش وطغيانها. وظل النبي عليه الصلاة والسلام في مكة حتى أَذِن الله تعالى له باللحاق بأصحابه والهجرة إلى يثرب. وكانت قريش قد اجتمعت واختارت فارساً من كل قبيلة من قبائلها ليقتلوا النبي علي الصلاة والسلام فيتفرق دمه بين القبائل. فأخبر جبريل عليه السلام النبي بمكر قريش، وأمره ألا ينام في فراشه تلك الليلة، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام عليا رضي الله عنه أن يبيت في فراشه بدلا عنه ويتغطى ببردته ليظن الناس أن النبي نائم في فراشه. وخرج النبي عليه الصلاة والسلام برفقة صاحبه وأحب الرجال إليه أبو بكر الصديق مهاجرا إلى يثرب، ويُروى عن ابن عباس أنه قال: "لما خرجَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم من مكةَ قال: أمَا واللهِ إني لأَخرجُ منكِ وإني لأعلمُ أنك أحبّ بلادِ اللهِ إلى اللهِ، وأكرمهُ على اللهِ؛ ولولا أهلكِ أخرجُوني منك ما خَرجتُ." (أخرجه الترمذي). واجتمع فرسان قريش عند باب النبي، واقتحموا الدار في ظلمة الليل فوجدوا عليا في فراش النبي عليه الصلاة والسلام. فَعَلِموا ان النبي قد خرج من مكة فأرسلوا في طلبه، وكان النبي عليه الصلاة والسلام وابي بكر رضي الله عنه قد أويا إلى غار ثور جنوب مكة، وكان أبو بكر قد جهز راحلتين للسفر، وأعطاهما النبي عليه الصلاة والسلام لعبدالله بن أُرَيقِط على أن يوافيهما في غار ثور بعد ثلاث ليالٍ، ويكون دليلًا لهما في الطريق ليثرب. وكانت أسماء بنت أبي بكر تُحضِر الطعام للنبي وأباها في الغار ليلا، وكان أخوها عبدالله بن أبي بكر ينقل لهما أخبار قريش وما يأتمرون به ويخططون له، وكان مولى أبي بكر، عامر بن فهيرة، يمحي ويغطي أثر عبدالله بن أبي بكر بالغنم التي كان يرعاها لقريش. وأثناء مكوث النبي وأبو بكر بالغار، جاءت قريش تبحث عنهما، حتى وقف المشركون على الغار، لكن الله تعالى أعمى أبصارهم وصدهم عن النبي وصاحبه، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "قُلتُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَنَا في الغَارِ: لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا." (رواه البخاري). وقد ذكر الله تعالى هذه الحادثة في كتابه الكريم، في قوله تعالى: "إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ." (التوبة: 40). ومكث النبي عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر في غار ثور ثلاث ليالٍ حتى هدأ طلب قريش لهما ووصل دليلهما مع الراحلتين، فتابعا طريقهما إلى يثرب. وهم في الطريق أعرض لهما سيد بني مدلج، سراقة بن مالك، وكانت قريش قد جعلت دية مئة إبل لمن يقتل النبي وأبو بكر أو يأسرهما، فسار في أثرهما سراقة طمعاً بالجائزة. وعندما وصل إليهما غاصت يدا فرسه في الأرض، حتى بلغتا الركبتين فخر عنها، ثم زجرها فنهضتْ فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فنادى في النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر يستأمنهما، وطلب أن يدعوَ النبي الله ان ينجيه مما هو فيه على أن يرجع عنهم ويعمي عنهم الطلب فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى ومنطقته وتاجه، فقال سراقة: كسرى بن هرمز؟ فقال رسول الله: نعم" وهذه تعد من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، إذ أخبر، والمسلمون مستضعفون وجُل العرب تكيد بهم، عن فتح فارس وزوال حكم الأكاسرة ومَغنَم سُراقَة سواري كسرى وتاجه وهو ما تحقق في عهد خلافة عمر بن الخطاب. وبعد ان نجى الله سراقة بدعاء النبي صار يردّ عنهم الطلب، فلا يلقى أحدًا إلا ردّه، يقول لهم: "سيرت - أي اختبرت - الطريق فلم أرد أحدًا". وفي الطريق إلى يثرب مرّ النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه على أم معبد، عاتكة بنت خالد، التي استضافتهم في خيمتها وسألوها الطعام ليشتروه منها لكن لم يجدوا عندها شيئا، فنظر النبي إلى طرف الخيمة فوجد شاة هزيلة، فسأل أم معبد أَبِها لبن، فردت أنها أجهد من ذلك، فاستأذن النبي بحلبها وجيء بالشاة إليه فوضع يده الطاهرة على ظهرها وسمى الله ثم دعا بالبركة، فامتلأ ضرعها لبنًا، فشرب هو وأصحابه ثم أراحوا ثم حلب ثانيًا فيها بعد ذلك حتى ملأ الإناء ثم أعطاه أم معبد، وانصرف النبي وأصحابه وأكملوا طريقهم حتى وصلوا إلى قباء في جنوب يثرب، ونزل النبي عليه الصلاة والسلام عند كلثوم بن الهدم ومكث عنده في قباء 4 أيام أسس بها مسجد قباء أول مسجد بُنِيّ في الإسلام،، ثم أكمل النبي طريقه إلى يثرب ودخلها في يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول واستقبله الأنصار أَيُما استقبال. ونزل النبي عند أخواله من بني النجار في دار أبو أيوب الأنصاري. ويُعد وصول النبي عليه الصلاة والسلام للمدينة بداية تأسيس الدولة الإسلامية التي كانت مركزا لنشر الإسلام وهداية البشرية.
كتبه: مصعب العوضي